رئيس الوزراء التركي زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي لم يقدم على هذا تحويل بلاده اعتباطيا، أو نتيجة لحظة مزاجية، و إنما بناء على تخطيط مسبق، و بعد أن امتلك أسباب القوة، ويمكن إيجاز هذه الأسباب في النقاط التالية:
اولا: أردوغان فكك الأتاتوركية قطعة قطعة، و أعاد تركيا إلى محيطها المشرقي الإسلامي، و أنهى ممارساتها السابقة المتعالية ضد الإسلام والمسلمين، وسياسات التذلل للغرب، وساعده على ذلك عنصرية الأوروبيين وعداء معظمهم للإسلام، من حيث رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهي التي قدمت لأوروبا الغربية خدمات جليلة كعضو في حلف الناتو في مواجهة الإمبراطورية السوفييتية أثناء الحرب الباردة.
ثانيا: عكف أردوغان وحزبه طوال السنوات العشر الماضية على إدخال إصلاحات داخلية، اقتصادية وسياسية واجتماعية هائلة، تحت غطاء الاستجابة لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد أدت هذه الإصلاحات الديمقراطية إلى تقليص دور المؤسسة العسكرية الحامية لتراث الأتاتوركية لصالح المؤسسات المدنية التركية.
ثالثا: فتح أسواقا جديدة في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا للبضائع التركية. فقد أقام مناطق حرة مع سورية، و ألغى التأشيرات مع معظم الدول العربية، ونفذت الشركات التركية مشاريع بنى تحتية ومطارات في كل من مصر و تونس و ليبيا و قطر و الإمارات، وتم توقيع معاهدات واتفاقيات تفضيلية تجارية مع معظم العرب، بحيث بلغ حجم التجارة التركية مع هذه الدول 32 مليار دولار يمكن أن تتضاعف في غضون خمس سنوات.
رابعا: عيّن أردوغان البروفسور داوود أوغلو وزيرا للخارجية، وهو من اكبر دهاة تركيا، ويوصف بأنه 'عثماني متطرف'، و أصبح أوغلو مهندس الانفتاح على المشرق، بزياراته المتواصلة لإيران و العراق و كردستان العراق، ونجح في حل جميع النزاعات تقريبا بين تركيا وهذه الدول.
خامسا: انفتاح أردوغان على الأكراد سواء داخل تركيا أو خارجها، جاء في توقيت ذكي جدا، فقد سحب من أيدي الأمريكان ورقة قوية استخدموها دائما ضد تركيا والعراق، وذلك عندما اعترف باللغة والثقافة الكرديتين، وزاد من الاستثمارات في المناطق الكردية. في المقابل وجد الأكراد أن الحليف الأمريكي لا يمكن الاعتماد عليه في ظل انحسار نفوذه، وهزائمه شبه المؤكدة في أفغانستان و العراق، وبروز قوى عظمى جديدة مثل الهند والصين والبرازيل وروسيا الاتحادية.
سادسا: وجه أردوغان ضربة قاصمة إلى إسرائيل بإقدامه على المصالحة مع أرمينيا، فلطالما استخدمت إسرائيل هذا الخلاف لابتزاز تركيا من خلال الادعاء بتوظيف اللوبي اليهودي في أمريكا لتحييد العداء للأتراك، ومواجهة اللوبي الأرميني القوي المحرض ضدهم.
سابعا: إدراك أردوغان و حزبه للتغييرات الكبرى داخل المجتمع التركي، من حيث تزايد العداء لأمريكا و إسرائيل ، وزيادة المد الإسلامي ، وظهر ذلك بوضوح أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.
ثامنا: بناء اقتصاد تركي قوي يرتكز على خطط تنمية مدروسة في مجالات إنتاجية صلبة مثل الاستثمار في مجالات الزراعة والصناعة ، وتصدير الخبرات التركية إلى دول الجوار. وهذه السياسة الذكية جعلت تركيا تحتل المرتبة 17 على قائمة الاقتصاديات الكبرى في العالم، والعضو في تكتل الدول الاقتصادية العشرين، وهذا كله رغم عدم وجود نفط لديها أو غاز، و إنما عقول خلاقة.
تاسعا: أدرك أردوغان أن هناك فراغا استراتيجيا في الشرق الأوسط، فالعراق انهار، و مصر ضعيفة بسبب قيادتها المتكلسة الذليلة، و النفوذ الأمريكي ينحسر إقليميا و عالميا بسبب خسائر حرب العراق. فالنظام العربي الآن مثل تركيا المريضة قبيل الحرب العالمية الأولى ، و لذلك هرعت تركيا لملء هذا الفراغ قبل أن تملأه إسرائيل أو إيران.
عاشرا: موقف تركيا أردوغان من البرنامج النووي الإيراني مشرف ، فقد أيد حق إيران في امتلاك هذه البرامج، وقال صراحة، وفوق رؤوس الأشهاد 'من لا يريد البرامج النووية الإيرانية عليه إن يتخلى عن برامجه المماثلة أولا'. و قال هذه التصريحات في وقت يتواطأ فيه زعماء عرب مع إسرائيل سرا ضد إيران.
الشعب التركي لديه قيادة ذكية وطنية إسلامية واعية مثل السيد أردوغان والمجموعة المحيطة به التي أعادت تركيا إلى الواجهة مجددا، و أعادت إليها هويتها الإسلامية على أسس العدالة والديمقراطية والمساواة والانتصار للضعفاء.
هذه القيادة النموذج غير موجودة في بلداننا العربية، ولا يلوح في الأفق أنها ستوجد في المستقبل القريب، حيث تعم الديكتاتوريات و إفرازاتها النتنة من فساد وقمع ومصادرة الحريات، ونهب المال العام، والغرق في الملذات و الأمور الهامشية والثانوية.
إننا نناشد السيد أردوغان وزملاءه أن يصدّروا إلينا هذه التجربة، وليس فقط منتوجاتهم الصناعية، وشركات المقاولات، لان المساعدة في بناء الإنسان العربي الجديد وفق الأسس و الأصول الإسلامية المعتدلة ، أهم من المساعدة في بناء المطارات و الطرق و الموانئ ، أو فلتسر العمليتان جنبا إلى جنب.